ما هي الحقيقة في عالم مضطرب؟
هارون يحيى
يُسلَّط الضوء كل يوم على معلومات ووثائق جديدة، لتنكشف الأكاذيب التي غيَّرت مجرى التاريخ. فيشاهد الناس في ذهول الحقيقة التي تقول إن "الرواية الرسمية للتاريخ"، والحقائق التي لم تكن محل شك لأي شخص فيما مضى، هي في الحقيقة متخمة بالمعلومات المغلوطة.
يطرح الكاتب والمؤرخ ألكسندر كاندوتشي في كتابه "أعظم الأكاذيب في التاريخ" مجموعة من الأكاذيب التاريخية التي أدَّت إلى ثورات وحروب، والافتراءات التي صُدِّقت حتى يومنا هذا. يتعرض كاندوتشي في كتابه أيضًا إلى الأكاذيب التي أشعلت حروبًا دموية في القرن الحادي والعشرين. وإحدى هذه الأكاذيب، وفقًا لما ذُكر في مصادر أخرى، تلك التي قالت إن العراق كان يمتلك "أسلحة تدمير شامل"، وإن الولايات المتحدة غزت البلاد لتدمير هذه الأسلحة التي يُفترَض أنها تشكل خطرًا على العالم وكي "تجلب الديمقراطية" إلى البلاد. اضطر توني بلير نفسه أن يعترف بهذه الحقيقة في الأعوام اللاحقة. فالحقيقة أنه لم تكن هناك "أسلحة دمار شامل" في العراق.
("أعظم الأكاذيب في التاريخ" نُشر في 2010، للكاتب ألكسندر كاندوتشي)
سُلِّط الضوء على هذه الكذبة - التي أطلقت شرارة الحرب على العراق في عام 2003، والتي صدَّق عليها رئيس الوزراء البريطاني حينئذٍ توني بلير استنادًا إلى معلومات استخباراتية قدمها جهاز الاستخبارات البريطاني - عن طريق تقرير لجنة تشيلكوت الذي أصدرته مؤخرًا اللجنة الرسمية التي عينها البرلمان البريطاني للتحقيق.
لخص كريج جون موري، وهو السفير البريطاني السابق لدى أوزبكستان والمسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية البريطانية، العواقب المرعبة لهذه الكذبة في السطور التالية:
"إن لم يصمم بلير تصميمًا تامًا على مهاجمة العراق استنادًا إلى معرفته بكذبة تشير إلى وجود أسلحة الدمار الشامل، لكانوا أحياءً الآن، هم وملايين الموتى الآخرين... إن الحقيقة هي، بلا أدنى شك، أن وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات البريطاني عرفوا أنه لا يوجد أسلحة دمار شامل عراقية".
أما فيما يتعلق بجورج دبليو بوش، الذي أعلن الحرب على العراق، وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، فقد قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: "لقد كذبوا، لقد قالوا إن هناك أسلحة دمار شامل، ولم يكن ثمة أي منها. وقد كانوا يعرفون أنه ليس هناك أي أسلحة".
أوضح بحث، عرضته قناة سي إن إن، أن سبعة مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى، بمن فيهم بوش وديك تشيني وكولن باول وكونداليزا رايس قالوا 935 تصريحًا خاطئًا علانيةً حول المخاطر الأمنية التي يُفترض أن العراق يشكلها، وذلك خلال العامين التاليين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.
قُدِّمت كل هذه التبريرات من أجل حملة "مكافحة الإرهاب" التي شنّتها إدارة بوش لينغمس الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بسببها في بحر من الدماء والنار والرعب لمدة 15 سنة مضت.
كتب سيوماس ميلن، وهو صحفي استقصائي وخبير في شؤون الشرق الأوسط، في مقالته التي نُشرت في صحيفة الغارديان عن الطريقة التي قدَّم بها جهاز الاستخبارات البريطاني ووكالة المخابرات المركزية (CIA) الدعم العسكري واللوجستي للجماعات الإرهابية في سوريا، ومن المؤكد أن هذا لا يعد مكافحةً للإرهاب. يتحدث ميلن في مقالته عن كيفية تحقيق المنظمات الإرهابية، مثل داعش والقاعدة، هيمنة على الأراضي في العراق وسوريا، وأخيرًا في ليبيا عن طريق وسائل العمليات العسكرية الأمريكية والبريطانية.
بينما كان في الماضي لا تقال سوى كذبة واحدة أو حفنة قليلة من الأكاذيب خلال القرن الواحد، تقال في عالمنا اليوم كذبة صارخة جديدة كل يوم. وتنتج عن كل كذبة كارثة جديدة في منطقة مختلفة من العالم، كما أنها تؤدي دورها في التستر على جريمة ما ضد البشرية.
لم تعد هناك حاجة إلى مجهود خاص من أجل جعل الأكاذيب أكثر مصداقية، مثلما كان الأمر في الماضي. إذ أن ملازمة العقيدة التي تقول "أخبِر بكذبة كبيرة بما يكفي، وسيصدقها الناس"، والتي بشّر بها يوزف غوبلز، وزير الدعاية السياسية سيء السمعة في ألمانيا النازية، تكفي لتخدير الجماهير التي لا تسعى إلى أهداف أو مُثُل سوى تجنب الفشل.
نتمنى أن يكون 2017 هو العام الذي يستيقظ فيه العالم بأكمله لمثل هذه الأكاذيب ويحكم بعدم صلاحيتها وعدم فعاليتها عن طريق تبني سلوك جمعي. نتمنى أن ندخل عهدًا تقف فيه الأكاذيب المُختلقَة - المسؤولة عن مأساة ملايين البشر الذين تكبدوا المعاناة، والدمار الذي واجهته عشرات البلاد والحضارات - أمام عصا العدالة، عهدًا لا يُقاد فيه التاريخ عن طريق الأكاذيب بل عبر المصداقية والأمانة والعدل.