كانت التربة مصدر الحضارات في كل العصور

ليست التربة المصدر الوحيد المرتبط بالتوازن البيئي، إذ تسمح خصائصها البنيوية باستخدامها كأداة عملية للغاية، وكمادة خام في الحياة اليومية. فالتربة مادة مفيدة للغاية لعبت دورًا عظيمًا في ظهور العديد من الحضارات على مر التاريخ.

لكي يتمكن المجتمع من إنشاء حضارة في منطقة بعينها، والارتقاء بها إلى مستوى معين بمرور الوقت، يجب مراعاة عدة شروط مهمة، يأتي على رأس القائمة تربة خصبة مناسبة للاستيطان وقريبة من مصادر المياه. لعب هذان العاملان دورًا هائلًا في تأسيس العديد من الحضارات العظيمة. 

يمكننا بسهولة رؤية هذا عندما ننظر إلى المناطق التي نشأت فيها حضارات عظيمة. على سبيل المثال، تم تأسيس الحضارة المصرية على الأراضي الخصبة التي تُروى بمياه النيل.

الحضارات التي أُسست بواسطة العديد من المجتمعات التي استوطنت بلاد ما بين النهرين، وليدة التربة الخصبة، ورويت بنهري دجلة والفرات. بالإضافة إلى هذا، العديد من الحضارات التي أُقيمت في وسط آسيا والشرق الأوسط، استوطنت هي الأخرى المناطق ذات التربة الخصبة، والمياه الوفيرة. هناك سبب مهم لهذا السلوك المشترك.

يحتاج البشر إلى بنية تحتية معينة لكي يتمكنوا من إنشاء حضارتهم في منطقة ما، والعنصران الضروريان لتلك البنية التحتية هما التربة والمياه.

كل الحضارات التي أُسست من قبل، استغلت الأرض بطرق مختلفة، واختبرت أنواعًا متعددة من وسائل الري، واستخدمت المياه والتربة في بناء أعمالها الرائعة، وآثارها.

المستوى العظيم للفن والعلوم الذي تحقق باستغلال الحضارات القديمة للتربة، والقوة العظيمة التي حازوها نتيجة لذلك، إحدى المواضيع التي أشارت إليها آيات القرآن، إذ تقول إحدى الآيات القرآنية في هذا السياق:
 

 

“أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (سورة الروم، آية 9).

 

جميع المباني والأعمال الفنية التي تُعد اليوم من العجائب السبعة للعالم، جاءت إلينا من الحضارات القديمة. البناء الموجود في بعضها يتم تبنيه كنموذج ويستنسخه المهندسون. هذه الخدمات التي تُمنح للحضارة من التربة تستمر إلى يومنا هذا على العديد من الأصعدة.  

بما أنَّ التربة مادة عملية، نشأت صناعة كاملة بناءً عليها في يومنا هذا، إذ تُستخدم التربة كمادة خام في الأسمنت، والسيراميك، والزجاج، وصناعات البناء.

يمكن تحويل التربة تحت تأثير الحرارة، وبخلطها مع مواد أخرى، إلى مواد شديدة المقاومة. بالإضافة إلى هذا، أصبح للصناعات المبنية على التربة تأثير كبير على صناعات أخرى، لأنَّ المنتجات المصنعة في هذه القطاعات تُستخدم أيضًا في البناء، والطاقة، وصناعات السيارات.

يُنعم الله الرؤوف الرحيم على عباده بنعم لا تنتهي من خلال التربة، على مختلف الأصعدة، مما يجعلهم قادرين على البقاء، وتحسين، وتسهيل حياتهم اليومية.