الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه

الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه

عدنان أوكتار

تعتبر الدعاية إحدى الممارسات التي تحدث في السياسة لتعويد المجتمعات على مبادئ يستحيل عليهم أن يعتادوا عليها بدون هذه الدعاية. وقد شاع استخدامها في الحرب العالمية الثانية.

تُستخدم الدعاية في هذه الأيام لإعادة تشكيل العقل اللاواعي باستخدام أساليب نفسية متنوعة. فيمكن أن تُصمَم أي ممارسة عبثية وغير أخلاقية أو أي فكرة يُستهدف فرضها على المجتمع، كي تبدو بريئة ومنطقية. وتستخدم من أجل هذا الغرض مجموعة متنوعة من التقنيات: إذ يجري استخدام كافة الإمكانات التي تتعلق بالتلاعب البصري باستخدام وسائل الإعلام. 

فيما يعتبر مصطلح "الأضرار التبعية" مثالًا واضحًا على مثل هذه الدعاية. فقد سمعنا هذا المصطلح الذي يشيع استخدامه ويُقدَّم باعتباره مبدأ لوصف آلاف المدنيين الأبرياء الذين يُقتلون خلال القصف. وبدلًا من أن نكون غاضبين ومصدومين، تُظهر عناوين الأخبار هذه المذابح العشوائية الخارجة عن السيطرة والقاسية على أنها اعتيادية وبريئة وغير مؤثرة.

كما أن الاستخدام اللغوي والابتداع لمصطلح "الأضرار التبعية" يبدو علميًا وتقنيًا إلى درجة ما. وعندما يحجز مثل هذا المصطلح مكانه بطريقة ما بين المصطلحات العلمية، فإنه يُشرعَن في منتهى الغرابة. بعبارة أخرى، يمكن أن يُقتَل أحد المدنيين الأبرياء تمامًا عن طريق طائرة قاذفة للقنابل من دون أن يُحاسَب أي شخص. علينا أن نطرح التساؤل عند هذه النقطة، هل من الممكن للأشخاص الذين نظموا استخدام هذا المصطلح وسمحوا به باعتباره شيء عادي وشرعي، أن يوافقوا على تمريره إن كان قرناؤهم أو أبناؤهم تأثروا بين من تأثروا بهذه الأضرار التبعية؟

وفقًا لبحث أجراه مشروع "إحصاء الجثث بالعراق"، بلغ عدد الأشخاص الذين فقدوا أرواحهم، خلال الفترة من مارس/آذار 2003 وحتى مارس/ آذار 2017، بسبب القنابل أو غارات الطائرات بدون طيار فقط 1972730 شخصًا. كما أن الأرقام التي كُشف عنها النقاب من قِبل مشروع "إحصاء الجثث بالعراق" لعدد القتلى الذين قضوا خلال الفترة الواقعة بين 20 مارس/ آذار 2003 و14 مارس/ آذار 2013 تبدو مرعبة. فقد وصل أعداد الضحايا في العراق خلال هذه الفترة 174 ألفًا، من بينهم 39900 ألف مقاتل فقط. مما يعني أن نسبة الضحايا من بين صفوف المدنيين بلغت 77%.

وفي سوريا، أشار المركز السوري لبحوث السياسات إلى أن 470 ألف شخص فقدوا حياتهم بسبب الحرب الأهلية التي بدأت في مارس/ آذار 2011. ووفقًا لتقرير نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان في مارس/ آذار 2017، بلغ عدد الأطفال الذي قضوا خلال الصراع 17411 طفلًا، كما بلغت خسائر الأرواح من النساء 10847 امرأةً.

من المؤكد أن مناطق الصراع ليست مقصورة على العراق وسوريا وحسب: باكستان، واليمن، وليبيا، والصومال، وكثير من مناطق العالم تواجه هي الأخرى مشاهدًا مروعة من الضحايا الذين يسقطون من بين صفوف المدنيين. ولا يُنظر إلى آلاف الأبرياء الذي قتلوا سوى باعتبارهم أرقام وإحصائيات من جملة البيانات التي تجمعها المؤسسات البحثية.

توقفت مؤخرًا العمليات في الموصل بعد أن وصلت خسائر المدنيين لأكثر من 200 شخص. فالتصريح الذي أصدره الجنرال الأمريكي صاحب أعلى سلطة من بين القوات الأمريكية في العراق، والذي قال فيه "إننا على الأرجح مسؤولون عن الضحايا المدنيين في الموصل"، يعتبر اعترافًا يجب أن يُنظر إليه بجدية في هذه القضية. ويبدو أن ثمة مشكلة في النظام نفسه، وليس في التعبيرات الاصطلاحية. 

ذكر جورج أورويل في مقال كتبه عام 1946 "إن الكتابات والخطابات السياسية تضخم الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، (ولذا) فإن اللغة السياسية يجب أن تتكون بدرجة كبيرة من التورية، والمصادرة على المطلوب، والغموض الغائم". لا يعتبر التفسير الذي قدمه أورويل تعريفًا مجردًا، لكنه يُستخدم لـ"تبرير" حالات الموت التي حلّت خلال السنوات الأخيرة.

ليست هذه هي القضية بالنسبة إلينا.

فكل الأشخاص الذين تضمنتهم قائمة "الأضرار التبعية" يمتلكون عائلةً وأصدقاءً وأحلامًا وخططًا حياتية. وليس لأي شخص سلطة تخول إليه سلب حقهم في الحياة لأي سبب. من المشكوك فيه أنه من خلال تبسيط الخطاب السياسي وهذه الأفعال البشعة، قد يشعر المسؤولون بالارتياح. وإن حدث ذلك، يعني هذا أن هناك مشاكلًا كبيرةً لدى الجنس البشري أو ضمائر هؤلاء الأشخاص.

لا يعتبر الحرب، تحت أي ظرف، مبدأً يتفق مع مبادئ الجنس البشري. وعلى عكس مزاعم بعض أنصار الجدلية المادية، فإنه ليس ضروريًا وليس تقدميًا. ليس الحرب سوى دمار. إنه يقتل البشرية والضمير والجمال والمحبة وسعادة الحياة. إنه يجلب الفقر والجوع والخوف والقلق والكوارث. إنه يخلق أناسًا تشكلهم الكراهية والغضب. فالروح البشرية لم تُخلَق من أجل الحرب.

لذا فمن الضروري أن نؤمن بأن الحرب مبدأ ظالم وغير منطقي، بدلًا من صياغة المصطلحات التي ستخفف من وطأة الآثار المروعة للحرب. يوجد طرق محددة أكثر نجاعة ومنطقية لتغيير البشر وإيقاف العنف خيرٌ من استخدام القنابل. وأيما كُنتم، فإن العقل البشري خُلق بطريقة لا يمكن معها مقاومة الحقيقة. وبناء عليه، يكفي أن نظهر الحقيقة بطريقة علمية. وإن أرادت البلاد السلام حقًا، فإنه يبدأ من هذه المرحلة تمامًا.

مصادر:

"Documented civilian deaths from violence", Iraq Body Count database, Retrieved 9 January 2015, https://www.iraqbodycount.org/database/.

"The War in Iraq: 10 years and counting", Iraq Body Count, Retrieved 13 July 2014, https://www.iraqbodycount.org/analysis/numbers/ten-years/

Priyanka Boghani, "A Staggering New Death Toll for Syria's War — 470,000", PBSonline, Feb 11, 2016, http://www.pbs.org/wgbh/frontline/article/a-staggering-new-death-toll-for-syrias-war-470000/

"About 465 thousand persons were killed in 6 years of the Syrian revolution and more than 14 million were wounded and displaced", Syrian Observatory for Human Rights, http://www.syriahr.com/en/?p=62760

William Zinsser, On Writing Well, 2016, p. 14