القيم الأخلاقية الرائعة للمؤمنين - 2

التضامن، والصداقة، وتبادل المساعدة، والتسامح، والولاء، والإخلاص، والاهتمام وحماية الآخرين

المُقدم:

يُعبِّر أغلب الناس عن توقهم لمزايا القيم الأخلاقية القويمة كلما سنحت الفرصة.

ويشكُون عدم استطاعتهم تلقّي القيم الأخلاقية المناسبة التي يتوقون إليها، مثل الحب، والاحترام، والولاء.

ومع ذلك، فالحقيقة هي أنَّ القيم الأخلاقية المناسبة متاحة فقط عبر الخوف من الله، والشعور بالتفاني العميق له.

ولهذا تجد المؤمنين الصادقين فقط من يعيشون على خطى تلك الفضائل.

هناك آيات عديدة في القرآن تتعلق بحياة الناس اليومية، وعلاقاتهم الاجتماعية. ويسعى المؤمنون إلى الحياة بتلك القيم الأخلاقية التي بيَّن الله في القرآن ما يتعلق بكل لحظة منها في حياتهم بأفضل أسلوب ممكن.

ولا يتنازلون أبدًا عن توضيح القيم الأخلاقية المناسبة مهما كانت الظروف.

لا يشتركون أبدًا في أي تمييز متعلق بأي موضوع أيًا كان، مبني على تضارب المصالح.

يترابط المؤمنون ببعضهم البعض في هذا العالم بالتقوى، وبإرادة الله سيُؤجرون في الآخرة.

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ" (سورة البينة آية 7-8).

 

الدعم المتبادل

يُعدُّ الدعم المتبادل، أو تضامنهم مع الآخرين، صفة مهمة للمؤمنين.

وكما هو منصوص عليه في القرآن، جميع المؤمنون إخوة.

إنَّهم أناس يشعرون بحبٍ صادق وإخلاص لله، ويتبعون القرآن، ويسعون للفردوس الأعلى.

ولهذا يسود حب وتضامن عظيمان بينهم.

يكشف الله في الآية التالية ما يجب أن يكون عليه شكل هذا التضامن فيما بينهم.

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ" (سورة الصف، آية 4).

تكشف الآية كيف أنَّه لا يجب أن يكون هناك التزام بين المسلمين من شأنه أن يتحول إلى عبء عليهم.

يبذل المؤمنون جهدًا عظيمًا لتجنب أي تضاؤل في تكافلِهم فيما بينهم، والسعي لتعزيز تفانيهم.

 

كونهم متسامحين

التراحم والتسامح تجاه ارتكاب الأخطاء يكون شديد الندرة في بعض المجتمعات إلى درجة أنَّه يكاد أن يكون منعدمًا.

يجلب الخطأُ الذلَّ، والسخريةَ لا محالة، ويُصبح العقاب في المعتاد هو الطريقة الأفضل المتاحة للتعامل مع المشكلة.

ولهذا السبب يرتعب الناس من ارتكاب الأخطاء. وبالفعل، يسعون بضراوة لتفادي الوقوع في الخطأ، ويسعون للتغطية على أي أخطاء يرتكبونها بدلًا من محاولة تداركها.

لكن عدم التسامح في مواجهة الخطأ كان دائمًا المصدر الرئيسي للشقاق.

إلا أنَّ الجميع لديه شخصيته المختلفة، ولهذا يمكن لكل شخص أن يكون متفوقًا في بعض الأمور، ومتواضعًا ومعيبًا في أمور أخرى.

على سبيل المثال، قد يكون شخص ما ذا طبيعة انفعالية أكثر من الآخرين، وشخص آخر قد يكون هادئًا بشكل مفرط، أو مهملًا، أو متباطئًا.

كل تلك النقائص هي صفات يجب أن يسعى الجميع إلى تقديم المساعدة لبعضهم البعض بشأنها، ويجب أن تُقابل بالتسامح، والتفهم، بدلًا من الغضب.

لهذا السبب، يجب أن يعرف المؤمنون أنَّ التعامل فيما بينهم يجب أن يكون مبنيًا على الصبر، والرحمة، والتسامح، وأن يسعوا لعلاج أخطاء بعضهم البعض بالتنبيه بأرق الطرق الممكنة.

لا ينسى المؤمنون أبدًا أن الخلاف المولود من رحم انعدام التسامح يؤذي الوحدة الموجودة بينهم.

 

 

تجنب الجدل والمنازعات

إحدى الأسرار التي تقف وراء الحياة السعيدة الهادئة للمؤمنين الحقيقيين هي الأخوّة الدافئة والتضامن فيما بينهم.

أي سلوكٍ من شأنه إلحاق الضرر بتلك الوحدة وهذا التضامن يُعدُّ انتهاكًا للقيم الأخلاقية المنصوص عليها في القرآن.

وبالفعل يحذر الله المؤمنين من تلك الأخطار في هذه الآية:

"وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (سورة الأنفال، آية 46).

مشاعر مثل الفرقة، والتناحر، والعداوة، والبغضاء مجرد أمثلة على القيم الأخلاقية السيئة الواجب تجنبها.

المؤمنون الصادقون لا يستسلمون لتلك المشاعر غير المرغوب فيها: يخشون الله، ودائمًا ما يكونون متواضعين، وودودِين، ومُراعِين للآخرين، ومُفعمين بالحب في علاقاتهم.

ويتجنب المؤمنون بشكل صارم أي كلماتٍ أو أفعالٍ من شأنها إيذاء إخوانهم المسلمين، كمُتطلبٍ منصوص عليه في القرآن، لكنَّهم يُبدون التصرفات التي من شأنها زيادة مشاعر الحب والثقة فيما بينهم.

وينص حديث للرسول عليه الصلاة والسلام على هذا الأمر كما يلي:

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِىٍّ عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ مَوْلَى الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ".

أي نزاع يقع بين المؤمنين سيُضعفهم ويُؤذي مناخ السلم السائد بينهم.

في الواقع، تُخبرنا الآية التالية في القرآن، أنَّه لو لم يتصرف المؤمنون تجاه بعضهم البعض كأولياء، بعبارة أخرى كأصدقاء ومُدافعين، سيسود الفساد في الأرض.

"وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ" (سورة الأنفال، آية 73).

حتى لو كان أحد المؤمنين يعتنق رأيًا مختلفا عن مؤمنٍ آخر، لا يزال عليه أو عليها أن يستخدما أسلوبًا توافقيًا، ومتواضعًا، ومحترمًا. وبالتالي ستبقى تلك الأفكار المختلفة في مستوى "استشاري" ولن ترقى أبدًا إلى "جدال".

يأمرنا الله في إحدى الآيات المتعلقة بما يجب أن يكون عليه سلوك المؤمنين تجاه بعضهم البعض، بالآتي:

"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (سورة الحجرات، 10).

 

 

تجَنُّب الحسد

تتمثل بعض العوائق الرئيسية التي تقف أمام الاتحاد والإخاء بين الناس في الحسد، والتنافس، والعدائية.

أي تنافس يمكن أن يظهر بين المؤمنين نتيجة للجشع سيقلل المحبة في قلوبهم.

إبداء الحسد تجاه مسلم يعمل على نشر القيم الأخلاقية للقرآن، أو تجاه هذا الشخص باعتباره منافسًا، لا يُعدُّ تصرفًا يمكن صدوره عن مسلم حقيقي.

يجب على المرء تقديم الدعم، والشعور بالفخر من تصميم هذا الشخص، بدلًا من الشعور تجاهه بالحسد. وصف الداعية الإسلامي الشهير بديع الزمان سعيد النورسي في كتابه "مجموعة رسائل النور" كيف يجب على المؤمنين التصرف بأسلوب متناغم ومتكامل تجاه بعضهم البعض، بالضبط كتروس المصنع.

يُمكن الحصول في المصنع على المنتج المتقن الخالي من العيوب، عندما تعمل كل تروس ماكيناتِه في تناغم، داخل جو أبعد ما يكون عن التبارز. 

يجب على المؤمنين الذين يسعون جاهدين للقيام بالأعمال الميمونة لنيل رضا الله أن يعملوا بنفس روح الوفاق تلك.

يجب أن يجتهد الصادقون بدونِ النظر إلى النقائص أو العيوبِ في بعضهم البعض، بل يجب عليهم أيضًا تعويض العيوب الموجودة فيهم.

أكَّد الرسول أيضًا على القضاء على الغيرة، والحسد.

وأمر المؤمنين أن يُحبوا بعضهم البعض حبًا صادقًا، دون أن يخُصُّوا أنفسهم بالبحث عن منفعة، وألّا يغرسوا أفكار الكراهية، والغضب، والغيرة تجاه بعضهم البعض.

كان رسولنا صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة للمؤمنين في هذا الخصوص، وهو الموضوع الذي قام بتوجيه النصح والإرشاد في شأنه مرات عديدة، وإحدى الأمثلة على ذلك ما يلي:

"لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا".

 

 

أن يكون مراعٍ للغير ويؤثر على نفسه

إحدى الصفات المميزة لمجتمع الجاهلية هو أن علاقات الشخص تقوم بشكل عام على المصلحة الذاتية.

علاقات الصداقة، والزواج، والأعمال، تقوم عمومًا على المصلحة؛ إذ يُفكر أغلب الناس عادة في أنفسهم وحسب.

وعادة ما تتدنى أفكار ومشاعر الآخرين إلى المرتبة الثانية، أو يتم تجاهلها تمامًا.

لكن القيم الأخلاقية للمؤمنين الصادقين مختلفة بالكلية.

لأن إحدى الخصائص الأساسية للمؤمنين هي خلوهم من المشاعر الأنانيّة.

المؤمن الذي تمكن من التغلب على مشاعره ورغباته الدنيوية سيراعي المؤمنين الآخرين ويُعاملهم بإيثار.

عبَّر رسولنا في أحد أحاديثه عن الأسلوب الذي يجب على المؤمنين انتهاجه تجاه بعضهم البعض:

"لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(متفق عليه).

المؤمنون الصادِقون الذين يؤْثرون الآخرين على أنفسهم ويحققون بالتالي مطلبًا من مطالب الإيمان والضمير.

إحدى أفضل الأمثلة على تلك القيم الأخلاقية السامية للعبادِ الصادقين تلك الخاصة بالّذين هاجروا، والذين آووهم.

"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (سورة الحشر، آية 9).

لا تقتصرُ الطريقة التي يفضل بها المؤمن المؤمنين الآخرين على نفسه على توفير الوسائل المادية لهم.

فالمؤمن يضع نصب عينيه كل متطلبات المؤمنين الآخرين ويقدمها على متطلباته الخاصة.

حتى في أكثر الأوقات عسرة تجده يضع راحته ودِعَته في المرتبة الثانية بتوفير كل الوسائل المتاحة له في خدمة المؤمنين الآخرين.

وعلاوة على ذلك، لن يسمح للطرف الآخر باستشعار أي قدر من الحرج، بنفس الطريقة التي لا يستشعر بها أي صعوبة في القيام بذلك.

يقوم بفعل ما هو ضروري، ويتصرف بأرقى أسلوب ممكنٍ، بدونِ السماح للطرف الآخر بالشعور أنّّه مدين له.

واجب المسلمين الأتقياء الباغين مشاركة الفردوس معًا هو إبداء الاهتمام بالإيمان، والقيم الأخلاقية، والنقاء، والسعادة، والصحة الخاصة بإخوانهم.

ويحافظون دومًا على إبداء الاهتمام، والإيثار بتصحيح عيوب إخوانهم وتلبية متطلباتهم.

 

 

الضيافة

بالنسبة للمؤمنين الذين يتبعون أخلاق القرآن، فإنَّ احترام ضيوفهم يُعدُّ أحد وسائل طاعة إحدى أوامر الله، بالإضافة إلى كونه فرصة لإبداء حسن الخلق، ولهذا يُرحب المؤمنون بضيوفهم بود.

يَعتبر الناس بشكل عام أنَّ الضيف عبء على المستويين المادي، والروحي، في المجتمعات التي تتبنى القيم الأخلاقية التي تعود للجاهلية، لأنَّهم يعجزون عن رؤية أحداث كتلك على أنَّها فرصة لكسب رضا الله، وللكشف عن السمو الأخلاقي، وبدلًا من هذا، يعتبرون معاملة الضيوف بودٍ واجبًا اجتماعيًا.

يجذب القرآن الانتباه بشكل خاص إلى السمو الأخلاقي الواجب إظهاره نحو الضيوف، فقبل كل شيء يوفر المؤمنون الاحترام، والحب، والسلام، والود لكل ضيف لديهم. لا يُعدُّ الترحاب الذي يُظهر مجرد الرعاية دون إبداء أي حب، أو احترام، أو سلام، أمرًا مُحببًا. إذ تُشجِّعُ القيم القرآنية المؤمنين على التنافس في فعل الخير، يمكن أن يكون المثال على هذا السلوك مجرد تحية لضيف.

يحثنا القرآن أيضًا على جعل الضيف يشعر بالراحة بتحديد جميع حاجاته الممكنة لكي يُمكن تلبيتها قبل أن يذكرها الضيف، بنفس الطريقة التي عامل بها سيدنا إبراهيم ضيوفه والتي تُعدُّ مثالًا مناسبًا على هذا السلوك، ويعكس صفة مهمة في مسألة الضيافة.

"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ" ( سورة الذاريات، آية 24 - 27).

إحدى النقاط الهامة في تلك الآيات التي تجذب اهتمامنا هي: هل من الأفضل عرض شيء للضيف قبل أن تسنح له الفرصة لطلبهِ؟ هذا لأن الضيف الدمث الخلق سيتردَّدُ في طلب أي شيء من احتياجاته. وسيُحاول ضيف كهذا منع المضيف من تقديم أي شيء بدافعٍ من اهتمامه، وعند سؤاله إذا ما كان يُريد أي شيء، فإن مثل هذا الضيف سيجيب بالنفي على الأرجح، وسيشكرُ المضيف على عرضه. ولهذا السبب، تُملي علينا الأخلاق القرآنية التفكير في الاحتياجات المحتملة للضيف مقدمًا.

وإحدى السلوكيات الأخرى المشار إليها هنا هي تقديم الشيء للضيف بدون تأخير، يكشف مثل هذا السلوك عن سعادة المضيف في توفير الراحة للضيفِ قبل أي شيء. وكما تُشير الآية، فإنَّ تقديم شيء ما للضيف "بسرعة" وبدون تأخير يكشف عن لهفته وتواضعه في خدمة ضيفه.

إحدى السلوكيات الجيدة الأخرى المُشار إليها في تلك الآيات هي أنَّه رغم عدم مقابلة سيدنا إبراهيم لضيوفه من قبل، إلَّا إنَّه يحاول خدمته بأفضل أسلوب ممكن، يُمكننا استنتاج أنَّه يجب أن يبذل الشخص أفضل ما عنده لإعداد وتقديم طعام لذيذ، وطازج، وعالي الجودة أثناء رعاية الضيف.

 

 

تجنب الجدال والخلاف

يُشير القرآن إلى الميول البشرية للجدالِ:

"وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (سورة الكهف، آية 54).

بعض الناس لا يُجادلون من أجل الموازنة بين الأفكار المختلفة.

كل ما يسعون له هو رغبة دنيوية في المواجهة.

في النزاعات التي من هذا النوع، لا يحاول أي طرف تقييم حجة الطرف الآخر بهدف الوصول إلى الحقيقة.

بل يسعون إلى مجرد فرض آرائهم الخاصة وإسكات الطرف الآخر.

لهذا يدور جدال لفظي بصوت عالٍ وتعابير وجه متحفزة، وربما تتحول إلى أعمال عنف في بعض الأحيان.

وأكثر شيء غير منطقي بين كل هذا هو الطريقة التي يُجادل بها البعض عن مواضيع لا يملكون أي فكرة بخصوصها على الإطلاق.

وينصب اهتمامنا على هذا الموضوع في آية من القرآن:

"هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (سورة آل عمران، آية 66).

يفعل الشيطان كل ما في وسعه لإثارة ونشر الجدال، لكي يُضل الناس ويصدهم عن سبيل الله ويجعلهم يُضيِّعون كل حياتهم.

يُصور الجدال كأمر مُبهج وجذاب.

لكن يتجنب المؤمنون أي نوع من أنواع الجدال، أو النزاع، الذي قد يؤدي إلى إضعاف روح الوحدة، والتكاتف، والإخاء.

لا يسعى أي مؤمن أبدًا إلى التمسك برغباته وتقديمها أمام رغبات إخوانه، لأنَّه ليس متعجرفًا، ولهذا لا توجد حاجة للانخراط في مثل هذا السلوك السطحي والدفاع بشكل أعمى عن فكرة كل ما يُميزها أنَّها فكرته.

عندما يختلف مؤمن ورع مع آخر في الرأي، يضع رأيه الشخصي، لكنَّه يستمع بكل إنصات للطرف الآخر.

ثم يلتزم بعد ذلك بالكلمات الجيدة التي أمرنا بها القرآن.

بعبارةٍ أخرى، يلتزم بالحقيقة في ضوء الأحكام التي عبَّر عنها القرآن. ولا يُصر على رأيه الشخصي إن اتضح خطؤه.

  دائمًا ما يستشير الآخرين، ويتقبل نصحهم، لأنَّه يعلم أن النصيحة تنفع المؤمنين.

"وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" (سورة الذاريات، آية 55).

 

 

سلوك المسلم في التحدث

يَسعَد المسلمون بالتحدُّث والحوار كطبيعة بشرية خلقها الله، يُمجدون عظمته، ويبغون سبل التقرب إليه.

يسعون لتعميق إيمانهم في مناخ مبني على الحب والاحترام المتبادل، ويقرؤون الآيات ويتأمَّلونها.

يُدرك المسلم وجود الله في كل لحظة، ويعرف أن الله يسمع كل كلمة ينطق بها. ولهذا يتجنب التفوه بأي شيء يعتقد أنه يغضب الله.

يُنصت دومًا لصوت ضميره، ويستخدم طريقة صادقة لتشجيع الأمانة، والخير، والقيم الأخلاقية الحميدة.

لأنَّه يعلم أن أي طريقة أخرى للحديث ستلحق الضرر بالوحدة، والتضامن بينه وبين الله.

مذكور في آية في القرآن أنَّه:

"وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (سورة فصلت، آية 33).

يكشف الله لنا في آية أخرى أنَّ البيوت التي يعيش فيها المسلمون هي تلك التي يُذكر فيها اسمه، وأنَّ هناك من يُسبحون بعظمته ليلًا ونهارًا. يتجمع الصادقون في هذه البيوت ويذكرون الله.

يتحدث المؤمنون بأكثر الأساليب صدقًا وأمانة وهم يذكرون الله، ويخوضون حوارًا ربانيًا غنيًا بآيات من القرآن.

في الحقيقة، يسعى المؤمنون إلى خلق مناخ من الفردوس على الأرض.

لهذا تجد منازلهم مثل تلك الموجودة في الفردوس، حيث تُعقد محادثات صادقة وممتعة، وحيث تُقرأ آيات الله، وحيث تُناقش الحِكَمُ الموجودة في تلك الآيات.

وبالفعل، طبقًا للقرآن، أعظم فعل للتقوى هو ذكر الله.

ليس هناك وقت ومكان يخصان هذا الأمر، ويمكن أن تنشأ محادثة بين المؤمنين يُذكر فيها الله في أي وقت.

لهذا يكشف القرآن عن هذا:

"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (سورة آل عمران، آية 191).

يُعدُّ الحديث الذي لا يُذكر فيه اسم الله، حديثًا فارغًا يُسبب اضطراب الروح البشرية.

على سبيل المثال، عندما يرى المؤمنون منزلًا جذابًا، يتحدثون عنه، لأنَّ المنازل الجذابة إحدى نعم الجنة.

يزيد الحديث عن تلك المواضيع من حماسة المؤمنين، ورغبتهم في الفوز بالجنة. لا ينسى المؤمنون أبدًا أنَّ هذا المنزل، وهذا العالم نفسه، ليسوا إلا مرحلة انتقالية، وأنَّهم سينتهون من الوجود في يومٍ ما، وأنَّ الله خلقهم اختبارًا للمُخلِص.

الكافرون، أيضًا، يُمكن أن يتحدثوا لساعات عندما يرون مثل هذا المنزل، لكن حديثهم مجرد تعزيز لارتباطِهم بهذا العالم.

يذكر المؤمنون الله في كل أقوالهم، ويُذكِّرون بعضهم البعض به في كل الأوقات، هذا هو مصدر السلام والسعادة في قلوبهم.

تكشف إحدى الآيات عن هذا:

"أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (سورة الرعد، آية 28).

 

 

كونه رحيمًا

كشف الله في القرآن عن وجود ذلك الرابط العميق من المودة، والرحمة بين الناس.

لهذا يطمح المؤمنون في وجود هذا المفهوم من الصداقة في القضاء على كل العوامل التي من شأنها التسبب في مشاكل لبعضهم البعض، وخلق بيئة مسالمة، ومُريحة. هم يُدركون أنَّ إخوانهم عبيدٌ ضعفاء لله مثلهم. يُقرون بأنَّهم عُرضة لارتكاب الأخطاء، والنسيان، ولهذا لا تتملكهم أبدًا مشاعر الغضب، وانعدام الرحمة، ويُشجعون بعضهم البعض لفعل الخير في تراحم.

يُظهر المؤمنون تراحمهم، بتشجيع بعضهم البعض على الانخراط في تلك الأعمال لأنَّها تُكسبهم رضا الله في الغالب. وهم يعرفون أن الرحمة الحقيقية تتطلب الدعم المتبادل ليكونوا مُستحقين للجنة. يبذل المؤمنون في هذا الإطار قصارى جهدهم لتعويض الأخطاء، والتقصير فيما بينهم. مثل هذا التعاون يُوْجبه الله، وتُوجبه الأخلاق القرآنية. حدود هذا التعاون مذكور في القرآن كما يلي:
"وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (سورة المائدة، آية 2).

وكما هو مذكور في الآية الكريمة، عدم تعاون المؤمنين على الإثم والعدوان هو تجسيد آخر للتراحم الحقيقي. هذه أفضل علامة على تراحم الفرد، يرجع هذا إلى معرفتهم بأنَّ أسمى تجسيد للرحمة هو عدم السماح لشخصٍ آخر بارتكاب معصية.

إحدى الطرق التي يُعبر بها المؤمنون عن حبهم وتراحمهم تجاه بعضهم البعض هي الطريقة التي يدعون الله بها طلبًا للخير للآخرين.

أيَّا كان ما يتمنونه لأنفسهم، يسألون الله أيضًا بالنيابة عن المؤمنين الآخرين. وعلاوة على هذا، يبلغ تراحمهم حدًا من النُبل إلى درجة أنهم يطلبون من الله أشياء للمؤمنين الآخرين.

دائمًا ما يدعون الله من أجل حياة مباركة - بها نفحات من رحمة الله - للمؤمنين في الجنة. يتضرعون إلى الله يسألونه الارتقاء بأخلاقهم وأخلاق إخوانهم، لحمايتهم من الأفعال الشريرة، والعفو عنهم ومكافأتهم بالجنة.

لا يوجد شك في سمو هذا الميثاق الأخلاقي، باعتبار أنَّ هؤلاء الناس بطبيعتهم ضعفاء أمام رغبتهم في السعي من أجل جلب الخير والراحة، وميلهم للحفاظ على أشياء أفضل لأنفسهم. وبخلاف هذا المثال، تعكس حقيقة مراعاة المؤمنين لإخوانهم، سمو أخلاقهم. وقد ركَّز القرآن على هذا الأمر في دعوات عديدة للمؤمنين.

"وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" (سورة الحشر، آية 10).

 

 

أساس القيم الأخلاقية القويمة: الإيمان

المُقدم:

وصف الله حالة المؤمنين العقلية، وسلوكهم، وقيمهم الأخلاقية السامية في آيات عظيمة متعددة.

خوف المؤمنين من الله، وإيمانهم الصادق، وسعيهم الدؤوب لنيل رضا الله، واستسلامهم، وتصميمهم، وحماسهم، وإيمانهم المطلق بالحياة الآخرة، وإخلاصهم، وصفات راقية أخرى مذكورة كلها في القرآن.

الأخوّة، والوحدة، والتكاتف، والإيثار كلها أمور يعيشها الناس على أعلى مستوى في مجتمع يتكون من أفراد تتملكهم تلك الصفات.

السر وراء هذا هو أن يُؤدَّى كل هذا بورعٍ، وبإظهار الإخلاص لله، والسعي فقط لنيل مرضاته.

عندما يمرض أحد إخوان المؤمن، يُظهر اهتمامًا صادقًا من أجل نيل رضا الله، فهو يحب أخاه لقاء مرضاةِ الله.

يتجنب الجدال ويتغلب على غضبه لوجه الله.

لأن الأمر المناسب الذي يجب فعله هو قضاء كل لحظة في القيام بالأعمال الصالحة، مبتغيًا فقط رضا الله دون انتظار مكافأة. يكشف الله بالفعل في إحدى آياته أنَّ هؤلاء الذين يُظهرون مثل تلك القيم السامية، سيتلقون أعظم ثواب.