وحدات بناء التكنولوجيا
شهدت بدايات القرن التاسع عشر تطورًا كبيرًا في تكنولوجيا النقل والمواصلات، حيث رحبت البشرية بهذا التطور الذي جعل الحياة أسهل بكثير، واستطاع الناس التأقلم معها سريعًا.
وبعد مرور أقل من قرن من الزمان، أصبحت الطائرات والقطارات فائقة السرعة والسيارات الذكية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
الرحلات التي كانت تستغرق أيامًا عِدّة، أصبحت الآن لا تستغرق سوى ساعات قليلة، التقدم في التكنولوجيا ليس مرتبطًا فقط بوسائل النقل والمواصلات، بل امتدت التكنولوجيا إلى مجالات عديدة كالصحة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووصلت لآفاق بعيدة.
تلك التكنولوجيا التي تحيط بنا في كل جوانب الحياة جعلت حياتنا تسير بشكل أسهل وأسرع وجلبت معها كلًا من الراحة وتوفير الوقت.
من الصعب توقع ما الذي سيتغير في حياتنا أيضًا في قرن آخر، ولكن الآن يمكننا تخيل فقط كيف ستبدو السنوات القادمة.
مقدم البرنامج: من وجهة نظر الكثير من الناس، فإن المباني العصرية التي نعيش فيها الآن، والسيارات التي نقودها، وأجهزة التلفاز وغيرها من منتجات التكنولوجيا التي لا حصر لها هي بالكامل من صنع الإنسان. في حقيقة الأمر، إذا قاموا بالتفكير بشكل أعمق قليلًا وقاموا بشغل أذهانهم سيجدون أنّ هناك حقيقة مهمة جدًا خلف كل هذا التقدم الذي وصلنا إليه: أنّ هذه التكنولوجيا والتقدم ما هي إلا إحدى نعم الله على الإنسان، ويجب أن نحمد الله تعالى على كل هذه النعم. دعونا الآن نخوض في تفسير هذا الأمر وكيف أنّ هذه التكنولوجيا هي نعمة من نعم الله يجب أن نحمده عليها.
سر الحديد
دعونا نفكر في تلك المنتجات الحديثة التي نستخدمها كالسيارات وأجهزة الكمبيوتر والتلفاز، الأفران الموجودة في منازلنا وكذلك أجهزة التليفون، كل هذه الأشياء مصنوعة من المعادن كالحديد والنحاس والقصدير والألومنيوم وكذلك البلاستيك المشتق من البترول.
يمكننا القول بأن هذه المواد الخام وخاصة المعدنية منها لو لم تكن موجودة على الارض، أو لو أنّ الإنسان لم يعرف كيفية استخدامها واستغلالها لما تمكنَّا من الوصول إلى هذه التكنولوجيا التي جعلت حياتنا أسهل في كل الجوانب.
تنتج التكنولوجيا من استخدام الإنسان لهذه العناصر التي خُلقت ووُجدت على الأرض لهدف ما.
بالنظر إلى أيٍّ من هذه العناصر ندرك تمامًا مدى المعجزة في تركيبها وخلقها، نحن نعلم ذلك تمامًا.
يتصدر قائمة هذه العناصر عنصرٌ يحتل أهمية خاصة ومكانة مهمة في الحياة وفي التكنولوجيا بكل تأكيد: الحديد!
الحديد هو من أكثر العناصر توفرًا في الأرض ويمثل ما نسبته 5% من القشرة الأرضية.
يلعب هذا العنصر دورًا هامًا في مراحل الحياة كلها، بدءًا من الاتزان الفيزيائي في العالم الذي نعيش فيه وصولًا إلى قدرتنا على الاستفادة من الهواء الذي نتنفسه.
يصف عالِم الأحياء الأستراليّ الشهير المتخصص بالجزيئات مايكل دينتون في كتابة (قدر الطبيعة) الذي حظي باهتمام كبير عالميًا، يصف كيف أنّ قوانين الطبيعة والعناصر الموجودة في الطبيعة تم تفصيلها واختيارها لتساعد حياة الإنسان. وبخصوص الحديد يقول في كتابه:
من بين كل المعادن، لا يوجد عنصر أساسيّ في الحياة مثل الحديد، حيث كان انجذاب ذرات الحديد إلى مركز الأرض في قديم الزمان بواسطة الجاذبية سببًا في توليد الحرارة التي تسببت بدورها في بدء أول عملية تمايز كيميائي على الأرض مما أدى إلى إطلاق الغازات في الغلاف الجويّ وتكوين الغلاف المائيّ فيما بعد.
( من كتاب قدر الطبيعة لمايكل دينتون – صفحة 198).
الحديد له أهمية خاصة أيضًا بالنسبة لأجهزتنا التنفسية. يكوِّن الحديد بدوره مع الأكسجين عنصرًا أساسيًا في تكوين الهيموجلوبين في دم الإنسان، هذا يحافظ بشكل كبير على ذرات الأكسجين الزائدة ويجعلها تحت سيطرة الجسم.
يقوم الحديد بتوجيه الأكسجين والذي يعد من أهم مصادر الطاقة في الجسم حيث يساهم في نقل الأكسجين إلى الخلايا. بكلمات أخرى، يمكننا القول بأن للحديد دورًا مهمًا في نظام التنفس.
ماذا لو لم يكن لذرات الحديد أيّ وجود؟
في هذه الحالة لَأصبح من المستحيل استمرار الحياة ولَأصبح هذا الكوكب الذي نعيش عليه غير صالحٍ للحياة.
لو لم يكن هناك وجود للحديد، لما وُجدت الحرارة على الأرض منذ قديم الزمان ولما تشكل كلّ من الغلافين الجويّ والمائيّ للأرض.
المجال المغناطيسيّ الذي يحمي الأرض من الشهب والنيازك لم يكن ليتكون أيضًا، كذلك الأمر بالنسبة للأحزمة الإشعاعية وطبقة الأوزون .. كل ذلك لم يكن ليوجد على الأرض لولا الحديد. ولولاه لأصبحت الأرض كوكبًا ميتًا
الحديد أيضًا هو أحد أهم العناصر التي ساهمت في تشكيل الحضارة الإنسانية.
هذا لأن الحديد هو السبب الرئيسي في وجود الصناعة، وكذلك لأنّ الصلب يتكون من كلّ من الحديد والكربون.
كل تلك المنتجات التي أنتجتها التكنولوجيا الحديثة والتي جعلت حياتنا أسهل كثيرا وحسَّنت من جودة ونمط الحياة ما هي إلا انعكاس وتأثير الصناعة.
لو لم يكن هناك حديد، لكان مستوى الصناعة على وجه الكرة الأرضية لا يتعدّى بعض المنتجات والأدوات الخشبية.
يظهر الحديد أيضًا في بعض المواضع في القرآن الكريم، على سبيل المثال معجزة الحديد اللين التي أنعم الله بها على نبيه داوود.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)" صدق الله العظيم. (سورة سبأ).
مقدم البرنامج: كل هذا يُظهر لنا أهمية وجود عنصر الحديد، وأنّ وجوده بكميات كبيرة على الأرض هو نعمة كبيرة يجب أن نحمد الله عليها. في الحقيقة، يلفت الله سبحانه وتعالى انتباهنا إلى هذه الحقيقة في القرآن الكريم، في سورة الحديد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" صدق الله العظيم (سورة الحديد – الآية 25).
مقدم البرنامج: تكمن في الحديد قوة هائلة والتي يمكن استخدامها والاستفادة منها بكثير من الطرق بالنسبة للإنسان، وهو أيضًا نعمة كبيرة من الله مكَّنت الإنسان من تحقيق التقدم التكنولوجي. لذا، فإنّ كل شيء مصنوع من الحديد والصلب يُذكِرنا بنعمة الله علينا.
المباني، السيارات، الطائرات، السكك الحديدية وناطحات السحاب الموجودة على الأرض قد نظن أنّ الفضل فيها يرجع للإنسان وحده. في الحقيقة، فإنّ كل ذلك موجود لأنّ الله قد خلق الحديد وأنزله في الأرض.
علامات خلق الله في علم التعدين
علامات خلق الله موجودة في كل العناصر التي شكَّلت التكنولوجيا. أحد هذه العناصر هو التعدين، أو بمعنى آخر، إنتاج ومعالجة المعادن.
التعدين هو نقطة الانطلاق بالنسبة للتكنولوجيا الحديثة. وجود المعادن المناسبة والطُرق التي تمكن بها الإنسان من صهر المعادن وتشكيلها يعد سببًا رئيسيًا فيها.
أول هذه الوسائل هي النار. فبفضل النار تمكَّن الإنسان من صهر المعادن. وتمثل المعادن الموصِّلات الطبيعية الوحيدة للكهرباء. لذا يمكننا القول بأن للنار فضلا كبيراً في الوصول إلى التكنولوجيا الحالية. يشرح لنا مايكل دينتون في كتابه الآتي:
إن الاستفادة التي حققناها من النار لا يمكن الاستهانة بها مطلقًا، فقد كانت هي السبيل الوحيد للتقدم التكنولوجي الذي وصلنا له. من النار أتى التعدين وأتت الأدوات المعدنية وأيضًا التطور الكيميائي. (مايكل دينتون – كتاب قدر الطبيعة – صفحة 242).
تبدأ النار في الاشتعال عن طريق المواد التي لها قابلية الاحتراق. الكربون يعد عنصرًا رئيسيا لعملية الاحتراق. عندما يتفاعل كلّ من الكربون والأكسجين تنطلق كمية كبيرة من الطاقة الحرارية والتي نشعر بها في صورة لهب.
مقدم البرنامج: على الرغم من ذلك، فإنّ هناك نقطة من المثير معرفتها هنا: 20% من الغلاف الجوي للأرض يتكون من الأكسجين، الكربون موجود في كل الكائنات الحية بما في ذلك أجسادنا. بمعنى آخر فإنّ مكونات النار موجودة جنبًا إلى جنب في كل مكان في هذا العالم.
إذًا يمكننا أن نسأل لماذا لا يتفاعلا معًا فورًا؟ لماذا لا تحترق أجسادنا وأجسام الكائنات الحية الأخرى وتتحول إلى لهب؟ الإجابة تكمن في التكوين والخصائص المذهلة للنار.
الخواص الكيميائية لكل من الأكسجين والكربون تم وضعها بعناية لكي يمكنهم التفاعل معًا وتكوين اللهب في درجات حرارة عالية جدًا فقط. لهذا السبب فإن بدء عملية الاحتراق يحتاج إلى درجة حرارة عالية جدًا.
عندما يحاول أحدهم إشعال النار بواسطة فرك قطعتين معدنيتين فإنها إحدى وسائل إحداث درجة حرارة عالية عن طريق الاحتكاك.
عندما تحاول إشعال أعواد الثقاب فإنك تقوم بإحداث حرارة عالية عن طريق احتكاك رأس عود الثقاب بالسطح الخشن.
لو كانت عملية تفاعل الكربون والأكسجين لا تحتاج إلى هذه الظروف للتفاعل معًا لأصبح اشتعال الأشجار بل والناس والحيوانات أمرًا ممكنًا عندما ترتفع درجة الحرارة قليلاً، كان ذلك ليصبح أمرًا عاديًا.
على سبيل المثال، ذلك النبات الذي ينبت في الصحراء كان من الممكن أن يتحول سريعًا إلى لهب وكأنها أشبه ببرميل للبارود عندما تزداد درجة الحرارة بشكل ملحوظ في منتصف النهار.
بهذا الشكل، كان من المستحيل أن نتحدث عن إمكانية استمرار الحياة على الأرض بشكل عام.
حتى وإن تطلب تفاعل الكربون والأكسجين درجة حرارة أعلى مما يتطلبها في الواقع لحدوث الاشتعال، لم يكن الناس ليتمكنوا من إشعال النار.
كانت النار لتصبح نوعًا خياليًا من الطاقة لا يراه الناس إلا عندما يضرب البرق أحد الغابات مثلًا.
مقدم البرنامج: باختصار، فإن خواص كلّ من الأكسجين والكربون قد خُلقت بشكل دقيق جدا لتحقق الاتزان ولتصبح في أفضل صورة ممكنة لاستخدامها وبقائها تحت سيطرة الإنسان.
ما يسميه الإنسان "اكتشاف النار" هو تطويع الله للنار ليتم استخدامها بواسطة الإنسان. لفت الله انتباهنا لهذه الحقيقة في القرآن الكريم وإلى أنّ النار قد خلقت بشكل دقيق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، "الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون" صدق الله العظيم (سورة يس – الآية 80).
الأرض التي نعيش عليها هي مناخ مهيأ تمامًا لاشتعال النار. وهذه الطبيعة التي خُلقت بشكل خاص كانت نقطة الانطلاق للتكنولوجيا والتقدم الذي وصلنا إليه في هذه الأيام. يشير دينتون إلى العوامل البيئية أيضًا التي أسهمت في استخدام النار:
إن استخدام الإنسان للنار بالتأكيد يعود إلى عدة عوامل بيئية إضافية، على سبيل المثال توفر الخشب في الطبيعة ووجوده في صورة جافة. لو لم توجد تلك العوامل التي كان لها فضل كبير أيضًا، وأيضًا بفضل القوة العقلية والبدنية التي جعلت من الإنسان قادرًا على أن يسكن هذه الأرض، لم تكن لتتوفر كل من النار ولا علوم التعدين والكيمياء ولا كل هذا التقدم العلمي الذي وصلنا له. (مايكل دينتون – كتاب قدر الطبيعة – صفحة 245).
بكل تأكيد، فإن التكوين الجسماني للبشر، أي أنّ لهم أيدٍ وأذرع وقدرتهم على التنقل والرؤية هو أمر مثالي ليكونوا قادرين على استخدام النار. لقد خلق الله الجسم البشري بشكل مثالي يسمح له بأداء كل ما يحتاجه. وهب الله تعالى الإنسان العقل أيضًا، وبالتبعية الذكاء والمهارة التي مكَّنته من استخدام النار.
بدلًا من ذلك، كان من الممكن أن نأتي الى العالم بلا ذراعين. في هذه الحالة، سيكون من المستحيل بالنسبة لنا أن نشعل النار وبالتالي لكان من المستحيل أيضًا أن نشكل المعادن، التي قادتنا في النهاية إلى التطور التكنولوجي الذي وصلنا له.
أو ربما لو كان أيضًا مستوى ذكائنا منخفضًا عن الوضع الحالي، لكنا نعاني من نقص المعرفة والوعي ولكان من المستحيل أن نحدث التغيير في العالم من حولنا. في هذا الحالة، كنا سنكون غير قادرين حتى على وصف ما نحتاج إليه من تطور.
ولكن الله منحنا العقل الذي نفكر به، وخمسة حواس مذهلة تمكننا من اكتشاف العالم، وكذلك الجسم الذي يمكِّننا من تحقيق ما نرغب فيه من احتياجات بأفضل طريقة ممكنة. لهذه الأسباب فنحن قادرون على الاستفادة من نعم الله علينا، وبناء الحضارة وتطوير التكنولوجيا.
كل هذه النعم هي من عند الله. يذكرنا الله بكل هذه النعم التي لا حصر لها في تلك الآية من القرآن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، "وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" صدق الله العظيم (سورة النحل - الآية 18).
بالإضافة إلى حقيقة أنّ النار يمكن إشعالها والسيطرة عليها في هذا العالم، هناك ميزة أخرى دعمَت علم التعدين:
كل المعادن الموجودة في العالم وخصوصًا الحديد تنصهر وتتحول إلى صورة سائلة عند درجة حرارة معينه تصل إليها النار.
على سبيل المثال، فإن الحديد يحتاج إلى درجة حرارة تبلغ 1530 درجة مئوية لكي ينصهر، هذه الحرارة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال احتراق هائل.
على الرغم من ذلك، يتطلب الحديد أحيانًا درجات حرارة أعلى من ذلك ليصل إلى درجة الانصهار، لو لم يوجد وقود في العالم يمكِّننا من الوصول إلى هذه الدرجات، لَفَشل علم التعدين أيضًا في الوصول إلى أيّ شيء.
في هذه الحالة بالتأكيد لم يكن ليصبح هناك أيّ تكنولوجيا أو تقدُّم ولم نكن لنتمكن من بناء الحضارة.
بعد تلخيص التطور العلمي الذي وصل إليه الإنسان، يضيف دينتون التعليق التالي:
على الرغم من كون الرحلة طويلة جدا، فإن النتيجة التي وصلنا لها بما لا يدع مجالا للشك هي أننا نسير في طريق قد رُسِم بالفعل لنا من قبل، وأنّ كل ذلك ليس وليد الصدفة، لقد سرنا في طريق محدد لنا منذ اكتشاف النار وصولًا إلى ظهور العلم وحتى كوننا أمرًا محوريَّا في تشكيل هذه الطبيعة. (مايكل دينتون – كتاب قدر الطبيعة – صفحة 395).
مقدم البرنامج: تلك الحقيقة التي شرحها عالم الكيمياء الحيوية مايكل دينتون بمصطلحات علمية قد تعلمناها بالفعل من القرآن ويَعلَمها كل المؤمنين: خلق الله الكون وجعله صالحًا لحياة الإنسان، وجعل كل ما خلق على الأرض مسخرًا لخدمة الإنسان ومدَّه بالكثير من النعم. كما تقول الآية الكريمة في القرآن:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)" صدق الله العظيم (سورة إبراهيم)
ما نسميه الآن بـ "الانبهار التكنولوجي" ما هو إلا نعمة من نعم الله علينا. كل تلك الأجهزة المتطورة أنعم الله بها علينا وقد صُنعت من مواد قد سخرها الله لنا. يستخدم البشر هذه المواد ويشكلونها بمساعدة أجسادهم وحواسهم وقدراتهم الإبداعية التي قد أعطاها الله لهم من قبل.
علامات الخلق في الزجاج
إحدى المواد التي تستخدم كثيرًا وتحتل مكانة خاصة في الصناعات التكنولوجية ولها أهمية خاصة في حياة كل مِنّا والتي ليس لها مثيل من المواد هي الزجاج.
منذ أن تم اكتشافه لأول مرة وحتى اليوم، فإن أشكال واستخدامات الزجاج قد زادت بشكل كبير، وبزيادة استخدامات الزجاج، أصبح الزجاج سلعة لا غنى عنها بالنسبة للمستهلكين.
تم استخدام الزجاج لأول مرة في صورة خرز زجاجي لأغراض الزينة بين العامين 12000 و 4000 قبل الميلاد. هذه المادة بالغة الأهمية تم استخدامها في المباني، السيارات، المشروبات، الأدوية، والأدوات الكهربية والإلكترونية وكذلك في عدد كبير من المجالات الأخرى.
يوجد الزجاج في حالة تعتبر بين الصلبة والسائلة. السيليكون، أو بمعنى آخر ذرات الرمل تتجمع بشكل غير منتظم مع ذرات كل من الكالسيوم والبوتاسيوم والماغنسيوم والصوديوم، ينتج الزجاج من خلط هذه المكونات غير المنتظمة.
السبب في الانتشار الكبير للزجاج وكثرة استخدامه هي خواصه المميزة جدًا، فهو لا يصدأ وهو أيضًا مقاوم للماء وشفاف. يستطيع الزجاج أيضًا تحمل تأثير الكثير من المواد الصلبة والسائلة والغازية الأخرى التي يمكن أن تحتك به. هذه المقاومة تسمى بالمقاومة الكيميائية.
بالإضافة إلى ذلك فإن المقاومة الكيميائية للزجاج هي أمر يمكن التحكم فيه، فكلما زادت المواد القلوية في تكوين الزجاج كلما قلت مقاومته، في حين أنّ أكسيد البورون، أكسيد الألومنيوم، أكسيد الزنك وأكسيد الزركونيوم يزيد من مقاومته الكيميائية.
بفضل هذه الإمكانية لتغيير مقاومته، يتم حفظ الكثير من المواد الكيميائية التي تسبب تآكل وتلف المواد الأخرى داخل أوعية زجاجية تستطيع مقاومة هذه المواد.
الخواص الميكانيكية للزجاج إعجازية أيضًا. هناك الكثير من الطرق الخاصة التي تمكننا من زيادة مقاومته لتصل إلى درجات كبيرة جدًا.
الزجاج غير القابل للكسر لديه مقاومة عالية جدًا، لا يتأثر بالطرق أو الضغط بواسطة مطرقة مثلًا. بالإضافة إلى ذلك يمكن تقوية الزجاج أكثر وأكثر بإضافة بعض المواد الكيميائية بين طبقات الزجاج.
الممتع في الأمر أنّ هذه الطريقة تم اكتشافها وقت أن كُنّا في أمس الحاجة إليها، بالتحديد مع بداية عصر صناعة السيارات.
إن اكتشاف الزجاج المقوى تم في وقت احتياجنا إليه: في الوقت الذي بدأت فيه صناعة السيارات. في عام 1903 استطاع عالم الكيمياء الفرنسي إدوارد بنديتكتس تشكيل زجاج مكون من ثلاث طبقات بوضع طبقة من نترانت السيليلوز بين طبقتين من الزجاج. تم استخدام اكتشافه هذا كزجاج للسيارات في العشرينيات من القرن الماضي وتم استخدامه بشكل واسع في صناعة السيارات. (كتاب مقدمة كيمياء البوليمرات – الإصدار الثالث – شارلز كارهير جونيور).
مقدم البرنامج: هناك خاصية أخرى مهمة جدًا من خواص الزجاج، وهي كون المواد الخام التي يُصنع منها متوفرة بكثرة ويمكن إيجادها بسهولة، مما جعل للزجاج مكانة مهمة جدًا في حياتنا. إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه المواد الخام نادرة وقليلة الوجود كالذهب والأحجار الكريمة لفعل. وفي هذه الحالة لم نكن لنستطيع استخدامه كما نستخدمه حاليًا.
تماما كالحديد والنار أيضًا، فالزجاج قد تم خلقه من أجل الإنسان وتم تسخيره لصالحه.
المنتجات التكنولوجية الحديثة تشغل حيزًا كبيرًا من حياتنا هذه الأيام، تجعل حياتنا وأعمالنا وأمورنا المنزلية أسهل.
يمكننا الآن إنجاز أعمال كانت تتطلب وقتًا ومجهودًا كبيرًا بمجهود أقل وفي وقت أقل، ويمكننا قطع مسافات كبيرة في وقت قصير.
إنّ التكنولوجيا التي وصلنا لها هذه الأيام هي بالتأكيد من نتائج المستويات العالية التي بلغها ذكاء وقدرات الإنسان.
وعلى الرغم من ذلك فهناك حقيقة واضحة لا يمكن إغفالها: وهي أنّ الله خالق الكون هو الذي وهب الإنسان المواد والإمكانيات التي يسرت له الوصول إلى هذا التقدم، والأهم من كل ذلك منحه العقل والمقدرة على الوصول إلى كل ذلك.
كل إنسان مُدرِك لهذه الحقيقة يجب أن يعلم أنّ كل ما وصلنا إليه من تقدم تكنولوجي في الحقيقة هو نعمة من نعم الله علينا، والأهم من ذلك كله أنّه ينبغي علينا أن نشكر الله على هذه النعم لننال رضاه علينا.
في هذه الآية القرآنية يخبرنا الله تعالى أنّ الأرض والكون بأكمله قد خُلقوا وسُخِّروا من أجل الإنسان:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، "اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)" صدق الله العظيم (سورة الجاثية).