نظام السماوات

 

قد ينظر بانبهارٍ إلى النجوم التي تخترق الظلام، مَن يحدِّق في السماء في ليلةٍ صافية، سيجعل مثل هذا المنظر الأخاذ المرء بالطبع يتساءل: كيف بدأ هذا الكون الذي ندعوه وطننا؟ وما القوانين التي تحكمه؟

 

 

نظام السماوات

كان سؤال «كيف بدأ الكون؟» سؤالًا أذهل الناس عبر العصور. اتفق العديد من العلماء والفلاسفة على حقيقة واحدة بشأن أصل الكون، أي أنه كانت له بداية، وهي «الخَلق».

ولكن في أوروبا في القرن التاسع عشر، بدأت بعض الدوائر في معارضة هذه الحقيقة بصراحة، كان أساس معارضتهم عقيدة وضعها عدد من الفلاسفة اليونانيين، وهي تقليد فلسفي يُعرَف بـ «المادية». يعد هذا النظام الفلسفي - دون الاستناد إلى أي أسس علمية - المادةَ هي الأساس المطلق للوجود، رافضًا وجود أي شيء آخر.

أراد أصحاب النظرية المادية في القرن التاسع عشر - بتأثيرٍ من الفلاسفة اليونانيين القدماء - نقل هذه العقيدة إلى علم الفلك، ولذا زعموا أن الكون ليس له بداية وأنَّه في الحقيقة موجود منذ الأزل. وبهذه الطريقة، فقد أنكروا كذلك وجود خالق.

بعد سنوات، أثبت علم القرن العشرين بطلان هذه النظرة المادية. أظهرت الملاحظات والحسابات أنَّ الكون خُلِق بفعل انفجار كبير قبل حوالي 15 مليار عام. انتهى العالَم العلمي إلى تقبُّل حقيقة خلق الكون. وصرخ غلاف مجلة شهيرة بعنوان «العلم يعثر على الله». لنسافر الآن في الزمن إلى بداية القرن العشرين ونرى كيف تشكَّلت نظرية الانفجار الكبير.

 

العلم يكتشف الخَلق

 

 

عام 1922، أنتجت عالمة الفيزياء الروسية، ألكسندرا فريدمان، حسابات توضِّح أنَّ هيكل الكون لم يكُن ساكنًا وأنَّ أية نبضة صغيرة قد تكون كافية لجعل الهيكل بأكمله يتمدد أو ينكمش وفقًا لنظرية النسبية التي وضعها أينشتاين. في الحقيقة، بالنظر إلى الحسابات التي أجراها ألبرت أينشتاين في مجال الفيزياء النظرية، فإنَّه قد خلُص إلى أنَّ الكون لا يمكن أن يكون ساكنًا، ولكنه نحَّى هذه النتائج جانبًا كي لا يعارض الفكرة السائدة آنذاك والقائلة بكونٍ ساكن لا نهائي، وسوف يشير إلى هذا العزوف لاحقًا بأنَّه «أكبر زلة في حياته».

في الحقيقة، كانت بعض الأدلة التي تشير إلى وجود كونٍ متمدد قد اكتُشِفت بالفعل قبل عام 1922، كان هناك اعتقادٌ آنذاك بأنَّ هناك مجرة واحدة في الكون، وهي درب التبانة. ولكن في عام 1912، لاحظ عالم الفلك الأمريكي، فيستو ميلفن سليفر، سديمًا، بمعنى آخر جزءًا من مجرة، واستخدم قياسات الطول الموجي للضوء المنبعث من هذا السديم. أوضحت إزاحات الطول الموجي أنَّ السديم يبتعد، ولكن بسبب مستوى العلم البدائي في ذلك الوقت، لم يتمكَّن أحد من تفسير هذه المعلومة الثمينة تفسيرًا سليمًا.

كان التقويم يشير إلى عام 1929 عندما حدث أمر مختلف، كان العمال يصمِّمون مرآة عملاقة باستخدام أتُّون (موقد) صناعي ـ أكبر أتُّون بُنِي على الإطلاق - كانت هذه المرآة الضخمة ستوضَع في منظار أكبر وأقوى من الطُرُز السابقة، وكان من المقرَّر استخدام المنظار في مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا، والذي سيشهد أحد أهم اكتشافات التاريخ على الإطلاق.

كان إدوين هابل - عالم الفلك البارز في ذلك الوقت - وراء هذا الاكتشاف العظيم، كان هابل قد اكتشف سابقًا مجرات خارج درب التبانة التي نحيا فيها، وهكذا فقد أحدث ثورةً في رؤية البشرية للكون.

اكتشف ذلك العام اكتشافًا عظيمًا آخر بمنظاره الجديد في مرصد جبل ويسلون. فقد لاحظ، عبر أشهر من الرصد، أنَّ الضوء القادم من المجرات الأخرى مُنزاح نحو الأحمر، كانت لهذا اللون الأحمر أهمية فيزيائية. وفقًا لقوانين الفيزياء، فإن طيف مصدر الضوء الذي يبتعد عن نقطة الرصد ينزاح تدريجيًّا نحو الأحمر، ومن ثم، أشارت هذه الملاحظة إلى حقيقة لم تكُن معروفة قبل ذلك الوقت وهي أنَّ: كل المجرات في الفضاء تبتعد عن مجرتنا. كان هذا الاكتشاف بمثابة صاعقة في العالَم العلمي، وسرعان ما أكَّد العلم واقعًا مهمًا للغاية.

كان هابل على وشك اكتشاف أمر آخر مهم: لم تكن المجرات تبتعد عنا فقط، بل تبتعد عن بعضها البعض أيضًا. كانت المسافة بين المجرات تزداد طوال الوقت. كانت هناك طريقة واحدة فقط لتفسير هذا: الكون يتمدد.

وهكذا، بوضع ملاحظات هابل وحساباته النظرية التي رأيناها للتو، وتمدد الكون الملحوظ، معًا، ماذا كان يعني كل هذا؟

كي نفهم كيف يتمدد الكون أفضل، علينا محاولة تصور الكون بأكمله وكأنَّه سطح بالون ننفخه. على هذا البالون، رسمنا عددًا من النقاط المتباعدة بمسافات متساوية. كلما كبُر البالون، تباعدت النقاط على البالون أكثر وأكثر عن بعضها البعض.

يوضِّح هذا أنَّنا كلما عدنا في الزمن أبعد، عدنا حتى البداية، سنرى أنَّ الكون لم يكُن شيئًا سوى نقطة واحدة. توضِّح الحسابات أنَّ هذه «النقطة الواحدة» كان «حجمها صفر» و«كثافتها لا متناهية». وفي العِلم، تعني النقطة التي حجمها صفر «العدم».

انتقل الكون إلى الوجود بـ «انفجار» هذه النقطة. يُطلِق العلماء على هذا الانفجار «الانفجار الكبير».

يوضِّح الانفجار الكبير أنَّ الكون صُنِع من حالة معدومة، بمعنى آخر، أنَّه خُلِق. سنرى فيما يلي كيف سُرِدت هذه الحقائق العلمية منذ زمن بعيد في القرآن.

 

معلومات إعجازية في القرآن

 

 

في الحقيقة، كُشِف للبشرية عن هذه الحقائق حول أصل الكون قبل اكتشاف هابل بحوالي 14 قرنًا، ففي وقتٍ كان بالكاد لعلم الفلك فيه وجود، قال الله في القرآن، الذي أرسله للناس هاديًا، إنَّ الكون قد خُلِق من لا شيء.

«بَدِيْعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» القرآن الكريم، سورة الأنعام - آية 101.

تثبت الأبحاث العلمية الحديثة أنَّ كل المادة التي تشكِّل الكون الآن كانت من قبل متجمعة سويًّا في نقطة واحدة انفصلت لاحقًا، ولكن هذه الحقيقة التي كشفت عنها نظرية الانفجار الكبير كان القرآن قد كشف عنها للناس منذ 1400 عام.

«أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا» القرآن الكريم، سورة الأنبياء - آية 30.

وكذلك أخبر القرآن الناس عن تمدد الكون على نحوٍ خارق قبل وجود العلم بقرونٍ:

«وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» القرآن الكريم، سورة الذاريات - آية 47.

كل هذه الحقائق التي ظهرت أمامنا نتيجةً للأبحاث العلمية في القرن العشرين، كان القرآن قد قصَّها في الحقيقة منذ 14 قرنًا، ويثبت لنا هذا ثانيةً أنَّ القرآن كلام الله.

إذًا، كيف فازت نظرية الانفجار الكبير بانتصارها العلمي؟ كيف عانى المدافعون عن الفكر المادي من الهزيمة عند مواجهتهم بالانفجار الكبير؟

 

 

انتصار الانفجار الكبير على المادية

أظهرت نظرية الانفجار الكبير بوضوحٍ للعالَم العلمي أنَّ الله قد خلق الكون من العدم. ومع ذلك، لم يمنع هذا بعض الماديين من رفض الانفجار الكبير رفضًا أعمى.

فسَّر آرثر إدينجتون، الفيزيائي المادي الرائد، سبب هذه المقاومة كما يلي:

 من الناحية الفلسفية، يبدو لي تصور بداية مباغتة لنظام الطبيعة الحالي تصورًا بغيضًا. (S. Jaki, Cosmos and Creator, Regnery Gateway, Chicago, 1980, p. 54)

يرجع تصريح إدينجتون هذا بالطبع إلى الامتثال الأعمى إلى أحكامه الأيديولوجية المسبقة، ولكن ما ينبغي على العالِم فعله هو تقييم البيانات التي كشف عنها العِلم بطريقة موضوعية وقبول النتيجة مهما كانت.

كان عالِم الفلك البريطاني الشهير السير فريد هويل أيضًا منزعجًا كثيرًا من نظرية الانفجار الكبير. في منتصف القرن، اخترع هويل فكرته المضادة، نظرية «الحالة الثابتة».

لم تكُن هذه النظرية مختلفة كثيرًا عن نظرية «الكون الساكن» التي تمتَّعت برواجٍ عريض في القرن التاسع عشر. قالت نظرية الحالة الثابتة - تمامًا مثل النظرية المادية في القرن التاسع عشر - بالادعاء الكاذب بأنَّ الكون موجود منذ الأزل وذو حجم لا متناه.

كان الغرض الفعلي للنظرية هو دعم الفلسفة المادية، وكانت النقيض تمامًا لنظرية الانفجار الكبير، التي تفسِّر علميًّا خلق الكون. قاوم المدافعون عن نظرية الحالة الثابتة موجة الانفجار الكبير بعض الوقت، ولكن العلم كان يتقدَّم ويتطوَّر ضدهم.

في عام 1948، اكتشف أستاذ الفيزياء الأمريكي، جورج جامو، اكتشافًا مهمًا عن الانفجار الكبير. وفقًا لحسابات جامو، ينبغي أن يوجد في الكون كمًّا معينًّا من الإشعاع، من بقايا الانفجار الهائل. ينبغي أن يكون هذا الإشعاع منتشرًا على نحوٍ متساوٍ في أنحاء الكون بأكمله. لم يتأخَّر ظهور الدليل اللازم لتأكيد حساباته: ففي عام 1965، اكتشف الباحثان آرنو بينزياس وروبرت ويلسون سويًّا هذا الإشعاع.

كان هذا الإشعاع، الذي أطلقوا عليه «إشعاع الخلفية الكونية»، منتشرًا على نحوٍ متساوٍ في كلٍ مكانٍ بحثوا فيه في الكون. سرعان ما عُرِف أنَّ هذا الإشعاع هو أثر الانفجار الكبير، الذي ما زال يتردَّد صداه منذ اللحظات الأولى لذلك الانفجار العظيم.

حصل كلٌ من بينزياس وويلسون على جائزة نوبل مناصفةً عن هذا الاكتشاف الإبداعي.

كان هذا ما قاله آرنو بينزياس عن هذا الحدث الاستثنائي:

يقودنا علم الفلك إلى حدثٍ فريد، عالَم خُلِق من لا شيء… (Hugh Ross, The Creator and the Cosmos, How Greatest Scientific Discoveries of the Century Reveal God, Revised Edition, p. 122)

في عام 1989، أطلقت ناسا قمرًا صناعيًّا إلى الفضاء لدراسة ظاهرة إشعاع الخلفية الكونية. أكَّدت المجسّات الحساسة في القمر الصناعي، الذي يُسمَّى «مستكشف الخلفية الكونية» (COBE)، حسابات بينزياس وويلسون في 8 دقائق فقط. التقط مستكشف الخلفية الكونية بقايا استدلالية للانفجار الكبير الذي انبثق منه الكون.

شكَّل هذا الكشف، الذي عُدَّ اكتشاف القرن، دليلًا مباشرًا على الانفجار الكبير.

أذاع الإعلام العالمي هذا الدليل على الانفجار الكبير صاخبًا:

سنحاول الليلة أولًا شرح ما أطلق عليه اليوم أحد العلماء «اكتشاف القرن، إن لم يكن اكتشاف الأزمنة كلها» بمصطلحات يمكننا جميعًا فهمها. كانت هذه كلمات الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينج، مؤلِّف كتاب..

أُثبِتَت نظرية الانفجار الكبير من خلال دراسة سحب النجوم.

 

في برنامج (كلوز أب) هذا الصباح، سأنظر إلى خط يد الله. هذا ما يطلقه العلماء على أحدث بيانات تصلهم من الفضاء الخارجي، فعلماء الفيزياء الفلكية يشعرون بالقمر الصناعي القائم.

جاء المزيد من تأكيد البيانات التي حصل عليها مستكشف الخلفية الكونية من دراسات لاحقة. كانت إحدى هذه الدراسات البيانات التي جاءت عام 2000 من منطاد رصد يُعرَف باسم (بوميرانج) الذي انطلق عام 1998: أتاح المنطاد المجهَّز بمناظير ذات أحدث التقنيات، والذي سافر فوق القطب الجنوبي بـ 120 ألف متر، الحصول على بيانات مفصَّلة وواضحة عن إشعاع الخلفية الكونية.

قال مايكل تيرنر من جامعة شيكاغو، وأحد العلماء الذين حلَّلوا البيانات، إنَّ: البيانات التي حصلنا عليها عن طريق بوميرانج قد أكَّدت الانفجار الكبير كالتالي:

لقد نجح إطار الانفجار الكبير ونسبية أينشتاين العامة في اختبار جديد كبير.

أرسل القمر الصناعي الخاص بمسبار ويلكنسون لتباين الأشعة الكونية (WMAP)، الذي انطلق إلى الفضاء عام 2001، بيانات في عام 2003 تكشف عن تفاصيل مهمة مطابقة للبيانات التي حصلنا عليها من منطاد بوميرانج.

إلى جانب الأدلة مثل تمدد الكون وإشعاع الخلفية الكونية، كانت كمية غاز الهيدروجين والهيليوم الموجودة في الفضاء علامة مهمة أخرى. أوضحت الملاحظات العلمية أنَّ نسبة الهيدروجين للهيليوم في الكون هي بالتحديد ما تنبَّأت الحسابات ببقائه منذ الانفجار الكبير.

شكَّلت مستويات الهيدروجين العالية في النجوم التي ما زالت تحترق في الكون دليلًا أكبر على الانفجار الكبير، لأنَّ الكون إن لم تكُن له بداية وكان موجودًا منذ الأزل كما زعم الماديون، كان الهيدروجين ليكون قد تحوَّل الآن إلى هيليوم.

أدَّت كل هذه الأدلة الواضحة إلى الاعتراف بنظرية الانفجار الكبير في جنبات المجتمع العلمي. وبهذه الطريقة، اكتشف العلم حقيقة أنَّ الكون قد خُلِق.

حكى دينيس شاما، الذي دافع عن نظرية الحالة الثابتة مع فريد هويل لسنوات عديدة، كيف كان شعوره تجاه الدليل على الانفجار الكبير في السطور التالية:

كنت داعمًا لنظرية الحالة المستقرة، ليس بمعنى أنَّني كنت مؤمنًا بأنَّها لا بد وأن تكون حقيقية، ولكن بمعنى أنَّني وجدتها جذابة لدرجة أنَّني أردتها أن تكون حقيقية، ولكن مع تراكم الأدلة المعادية المستندة إلى الملاحظة، أصبح من الواضح أكثر وأكثر أنَّ اللعبة انتهت وأنَّ على المرء التخلِّي عن نظرية الحالة المستقرة. (Stephen Hawking's A Brief History of Time A Reader's Companion, pp. 62-63)

مع الانتصار العلمي للانفجار الكبير، أُلقِي بمفهوم «المادة التي وُجِدت منذ الأزل» الدوغمائي في صندوق قمامة التاريخ. اكتشف العلم أنَّ للمادة بداية وأنَّ الله قد خلقها من العدم، يثبت هذا وجود خالقٍ، وهي حقيقة أنكرها الماديون.

اضطر الفيلسوف الشهير آنتوني فلو بعد مواجهة هذه الحقيقة الجلية إلى الاعتراف بالتالي:

 

كما هو معروف، فالاعتراف مفيد للروح. ولذا سأبدأ بالاعتراف بأنَّ على الملحد أن يخجل من الإجماع الكوني المعاصر، إذ يبدو أن علماء الكونيات يقدِّمون دليلًا علميًّا على أنَّ للكون بداية. (Henry Margenau, Roy Abraham Vargesse, Cosmos, Bios, Theos, p. 241)

 

لم تثبت نظرية الانفجار الكبير أنَّ للمادة بداية فقط، ولكن أنَّ للزمن بداية أيضًا. خُلِق الزمن كذلك بفعل الانفجار الكبير، لأنَّ الزمن مفهوم يعتمد على المادة، ولا يمكن للمرء أن يتحدَّث عن الزمن دون وجود المادة.

أوضحت هذه الحقيقة أيضًا للعلماء أنَّ المادة والزمن قد خلقهما الله، الذي لا تحدّه هذه التصورات والقواعد التي تحكم كل الأشياء.

كتب عالِم الفيزياء الفلكية الأمريكي هيو روس، مؤلِّف كتاب «الخالق والكون - The Creator and the Cosmos»:

إذا كانت بداية الزمن متزامنة مع بداية الكون، فإنَّ سبب الكون لا بد وأن يكون كيانًا يعمل في بُعدٍ زمني مستقل تمامًا عن البُعد الزمني الخاص بالكون وسابق عليه. يخبرنا هذا أنَّ الخالق مفارق، يعمل مجاوزًا للحدود البُعدية للكون. (Hugh Ross, The Creator and the Cosmos, How Greatest Scientific Discoveries of the Century Reveal God, Revised Edition, p. 76)

تقبَّل العديد من العلماء الذين درسوا الأدلة العلمية دون أحكام مسبقة وجود إله قدير.

إذًا، كيف اكتشف العلماء «التوازن الدقيق» في الكون؟ كيف تشكَّل التوازن الخارق في الكون في الحقيقة؟

 

 

التوازن الخارق في الكون

 

لم يُثبِت العلم الحديث أنَّ الكون خُلِق من لا شيء فقط، ولكنَّه أظهر أيضًا أنَّ كل تفصيلة صغيرة كانت جزءًا من نظام لا تشوبه شائبة.

تثبت اكتشافات اليوم أنَّ الكون لم يتكوَّن بالصدفة البحتة، كما يزعم الماديون. فالكون بأكمله، على النقيض، هو إبداع الله المثالي.

كانت أحد أهداف التوازن الإلهي للكون خلق أكثر الظروف ملاءمةً للبشر. توضِّح الملاحظات الفيزيائية الفلكية أنَّ:

 

  • معدل تمدد الكون.
  • موقع الأرض في مجرة درب التبانة.
  • الطول الموجي للضوء المنبعث من الشمس.
  • قيمة لزوجة المياه.
  • المسافة بين الأرض والقمر.
  • نسبة الغازات الجوية لبعضها البعض.

 

والكثير من العوامل الأخرى التي وُضِعت كي تُشكِّل الظروف المثالية للبشر.

هذا التوازن حسَّاس للغاية لدرجة أنَّ حتى أبسط تغيُّر في هذه النسب كان سيحيل العالم إلى مكان غير صالح للحياة؛ كان عالَمنا سيكون كوكبًا ميتًا.

أطلق علماء الفلك والفيزياء النظرية على هذا التوازن المدهش «التوليف الدقيق». ومع كل يوم يمر، تُكتشَف أدلة أكثر على هذا التوليف الدقيق.

عند رؤية هذا الواقع، تقبَّل الكثير من العلماء - حتى أولئك الذين بيَّتوا أحكامًا مسبقة مادية - أنَّ هناك نظامًا كلِّيًا وتوازنًا في الكون وأنَّ هذا بدوره يثبت الخَلق.

فقد كتب عالِم الفيزياء الفلكية البريطاني جورج إليس، على سبيل المثال، أنَّ هذه التوليفات الدقيقة الموجودة في الكون لا يمكن تفسيرها سوى بـ«معجزة»، بمعنى آخر، عبر الإبداع الإلهي.

 هناك توليف دقيق يحدث في القوانين التي تجعل هذا [التعقيد] ممكنًا. إنَّ إدراك تعقيد هذا التدبير يُصعِّب عدم استخدام كلمة «خارق» دون اتخاذ موقف يخص الوضع الأنطولوجي للكلمة. (G. F. R. Ellis, 1993, The Anthropic Principle: Laws and Environments, The Anthropic Principle, F. Bertola and U.Curi, p. 30.)

وكان هذا كلام الأستاذ جون أوكيف، عالِم الفلك الذي يعمل لحساب ناسا:

إذا لم يكُن الكون قد صُنِع بأكبر دقة فائقة، لم نكُن لنوجد قط. رؤيتي أنَّ هذه الظروف تشير إلى أنَّ الكون قد خُلِق كي يحيا الإنسان فيه. (F. Heeren, 1995, Show Me God, p. 200)

إجمالًا، فالآن وبعد قرونٍ طويلة من الخداع المادي، أدرك العالَم العلمي أخيرًا وجود الله.

التوازن البديع للانفجار الكبير .. النظام العظيم الذي تكوَّن بعد هذا الانفجار .. كل هذا فيما يلي.

 

 

التوازن البديع للانفجار

 

 

كما رأينا، فإنَّ الكون الذي نعيش فيه وُجِد قبل حوالي 15 مليار عام بانفجار كبيرٍ، واستمر في التمدد وأخذ شكله الحالي.

 

خواء الفضاء…

المجرات…

الكواكب…

الشمس…

الأرض…

باختصار، تشكَّلت كل هياكل الكون وبِناه نتيجةً لهذا الانفجار. ولكن هناك واقع كبير وهو: أنَّ الانفجار الكبير كان انفجارًا عجيبًا شمل كل المادة اللازمة لتشكيل الكون. إذا لم يكُن شيئًا سوى انفجار مصادِف، كانت المادة المتشكِّلة فيه لتنتشر باندفاع وعشوائية دون نظام.

ولكن هذا لم يحدث، انتشرت المادة عبر خواء الفضاء وشكَّلت المجرات والنجوم والأنظمة النجمية وفقًا لخطة محددة. في النهاية، تشكَّل كون منظم ومنهجي لأقصى حد. كان هذا مفهوم مذهل للعديد من العلماء، لأنَّ كل الانفجارات تدمِّر النظام عبر تحطيمه إلى قطع صغيرة، فلكل الانفجارات أثر مدمِّر.

 

ومن ثم، فإنَّ تشكيل هذا النظام الذي لا تشوبه شائبة بعد الانفجار الكبير لا يمكن تفسيره سوى بـ«معجزة». كما صرَّح عالِم الفيزياء الفلكية الراحل آلان سانديج:

 

أجد أنَّه من المستبعد قليلًا أن ينبع مثل هذا النظام من فوضى. الله هو تفسير معجزة الوجود، وسبب وجود شيء ما بدلًا من لا شيء.

 

جمعت هذه المعجزة العظيمة بين الذرات بطريقة معينة، مشكِّلةً الكون والتوازن المثالي بين مليارات المجرات وتريليونات النجوم والأجسام السماوية الأخرى. إنَّه الله، الحكيم القدير، الذي صنع هذه المعجزة وأرانا إيَّاها. يقول الله في آيةٍ في القرآن:

«الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا» القرآن الكريم، سورة الفرقان - آية 2.

بدأت أجزاء المادة التي تشكَّلت نتيجةً للانفجار الكبير في التطاير بعيدًا عن بعضها البعض بسرعةٍ جسيمة.

ولكنَّها إذا كانت قد تطايرت بعيدًا بسرعةٍ أقل قليلًا، كانت المادة كلها لتتكتَّل سويًّا، بفعل قوة الجاذبية الشديدة، قبل أن تسنح الفرصة أمام أنظمة النجوم لتتشكَّل.

وإذا كان الكون قد تمدَّد أسرع قليلًا، كانت المادة الموجودة فيه لتتناثر وتنتشر في أنحاء الكون، وتضيع بطريقةٍ كانت ستعيق تشكُّل كلٍّ من المجرات والنجوم.

في أيٍّ من هذه الحالات، لم تكُن لتوجد كائنات حية - بما فيها نحن - في الكون.

ولكن لم يحدث أيٌ من هذه المواقف، بل أدَّى معدَّل التمدُّد المصمَّم تصميمًا جيِّدًا لأقصى حد إلى نظام الكون الحالي.

إذًا، ما مدى حساسية هذا التوازن بالتحديد؟

كتب الأستاذ ستيفن هوكينج - أحد أبرز الفيزيائيين في عصرنا - في كتابه الشهير تاريخ موجز للزمن Brief History of Time:

إذا كان معدل التمدد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أصغر بمقدار حتى جزء من مائة ألف مليون مليون، كان الكون لينهار ثانيةً قبل أن يصل إلى حجمه الحالي. (Stephen W. Hawking, A Brief History of Time, p. 121)

شبَّهت مجلة علمية معروفة بداية الكون بوضع سنّ قلم رصاص بطريقةٍ تجعله يظل في هذا الوضع حتى بعد مرور مليار عام. إنَّ مثل هذا التوازن يتجاوز حقًّا إدراك العقل البشري.

إلامَ يشير هذا التوازن الاستثنائي؟

بالطبع لا يمكن تفسير مثل هذا التوازن الحساس بالصدفة البحتة، بل إنَّه يشير إلى تكوين واعٍ. يقبل بول ديفيس، عالِم الفيزياء النظرية من جامعة أديليد في أستراليا، هذا الواقع، رغم دعمه للمادية.

ينبغي أن يظل التزامن الذي يبدو خارقًا للقيم الاسمية في الثوابت الأساسية [للطبيعة] أكثر الأدلة على وجود عنصر التصميم الكوني جاذبيةً. (Paul Davies, God and the New Physics, p. 189)

ما تجنَّب ديفيس قوله صراحةً لأسباب أيديولوجية - وأشار إليه بـ«التصميم الكوني» - هو الخَلق. أدَّت نتائج العلم الواضحة بديفيس - المادي - إلى الاعتراف بحقيقة أنَّ الكون نتيجةٌ للخَلق.

أدلى أستاذ الفلك الأمريكي جورج جرينشتاين بتصريحٍ مشابه في كتابه الكون التكافلي The Symbiotic Universe:

ومع فحصنا كل الأدلة، يزداد إلحاح فكرة أنَّه لا بد وأن تكون لفاعلٍ خارقٍ ما - أو بالأحرى للفاعل الخارق - يدٌ في الأمر. (George Greenstein, The Symbiotic Universe, p. 27)

خلاصة القول، يشير النظام والخطة الفريدان في الكون بوضوحٍ إلى وجود خالقٍ يملك ذكاء وقوة ومعرفية لا متناهية. وذلك الخارق هو الله الجبَّار، ربُّ كل العوالم.

سننظر الآن إلى غرض الخواء الشاسع في الفضاء. ماذا كان سيحدث لو لم يكُن الفضاء كبيرًا بهذا القدر؟

 

 

الخواء الشاسع في الفضاء

 

 

إنَّ المسافات بين الأجسام في الكون تبدو كبيرة لدرجةٍ مدهشة عند مقارنتها بالمسافات على الأرض. إنَّ أطول مسافة يمكننا قطعها على الأرض نفسها 15 ألف كيلومتر. والشمس، وهي جسمٌ نشعر أنَّه قريب منَّا قليلًا، أبعد من تلك المسافة بعشرة أضعاف، إذ تبعد عن كرتنا الأرضية بمسافة 150 مليون كيلومتر.

تُقاس المسافات الأطول من هذه باستخدام وحدات تُسمَّى «السنين الضوئية»، وهذه هي المسافة التي يسافرها الضوء عبر الفضاء في سنة، والتي تبلغ تسعة تريليونات وأربعمئة وستين مليار كيلومتر.

تقع مجرة أندروميدا، الجارة الأقرب لدرب التبانة، على بُعد مليوني سنة ضوئية منَّا. يحوي الكون نفسه 100 مليار مجرة أخرى تقريبًا، ومن هذا، يمكننا رؤية أنَّ تخيُّل المسافات الشاسعة التي يشملها الكون يتجاوز سعة عقولنا.

إذًا، لماذا الكون كبير جدًا؟ وجد العلماء الذين بحثوا عن إجابةٍ لهذا السؤال أنَّ حجم الكون رقم مذهل آخر. تجعل المسافات الشاسعة بين هذه الأجسام في الحقيقة مدارات الكواكب «ثابتة».

أوضحت الحسابات أنَّ هذه المسافات إذا كانت أكبر قليلًا فقط، كانت قوة الجاذبية بين النجوم لتجعل المدارات غير ثابتة، ممَّا كان سيؤدِّي إلى انحراف الأجسام عن مساراتها العادية.

وكذلك، إذا كانت المسافات أقصر قليلًا فقط، كانت العناصر الثقيلة التي تقع في الكون من خلال انفجارات النجوم المتجددة العظمى نادرًا ما ستسقط على كواكب ونجوم أخرى، وهكذا كانت الأرض لتصبح محرومة من العناصر الضرورية للحياة.

ختامًا، كشفت الحسابات التي أُجرِيت في هذا الموضوع عن حقيقة مهمة: إنَّ المسافات بين النجوم الموجودة حاليًا مثالية لوجود نظام كواكب مثل نظامنا.

كتب الأستاذ جورج جرينشتاين في كتابه الكون التكافلي:

لو كانت النجوم أقرب نوعًا ما، لم تكُن الفيزياء الفلكية لتصبح مختلفة جدًا. كان الاختلاف الوحيد تقريبًا سيكون منظر سماء الليل من موقع العشب الذي أرقد فوقه، والذي كان سيصبح أغنى بالنجوم. وكان سيكون هناك تغيير آخر صغير: لم أكُن أنا لأوجد كي أشاهد هذا المنظر، يالخسارة ذاك الفضاء! ومن ناحية أخرى، في هذه الخسارة، يكمُن أماننا. (George Greenstein, The Symbiotic Universe, p. 21)

من الفوائد الأخرى للمسافات الكبيرة بين المجرات منع الأجسام العملاقة المتجولة في الفضاء من الاصطدام ببعضها البعض. إذا لم يكُن الكون كبيرًا لهذه الدرجة، كان يمكن أن تصطدم النيازك العملاقة التي تتحرك ذهابًا وإيابًا في الكون بالأرض، وكان من الممكن أن تفنى كل مظاهر الحياة على كوكبنا.

 

 

الثقوب السوداء

 

بدأ التفكير لأول مرة في مفهوم «الثقب الأسود» في منتصف القرن الثامن عشر. والنظرية التي افترضها العالم الإنجليزي جون ميشيل، وأسماها لاحقًا الفيزيائي الأمريكي جون ويلر عام 1969: وهي أن التكثيف الشديد للكتلة في مكان صغير جدًا لا يمكن حتى للضوء الهرب منه يُشكِّل ثقبًا أسود.

نتيجةً لمستوى العلم البدائي، كان الفيزيائيون يزعمون أنَّ بإمكاننا رؤية كل النجوم. ولكن مع تقدُّم العلم، اتَّضح لاحقًا أنَّ هناك نجومًا في الفضاء لا يمكننا إدراك ضوئها. لا يمكننا رؤيتها لأنَّ ضوءها قد اختفى.

للثقوب السوداء جاذبية ضخمة، تلتقط حتى أسرع الجسيمات. على سبيل المثال، تنتهي المرحلة الأخيرة من أي نجم عادي، تبلغ كتلته ثلاثة أضعاف كتلة الشمس، بعد احتراقه وانفجاره الداخلي ليصبح ثقبًا أسود قطره 20 كيلومترًا فقط!

تستتر الثقوب السوداء عن الملاحظة المباشرة. ولكنَّها، مع ذلك، تكشف عن نفسها بصورةٍ غير مباشرة، عن طريق الامتصاص الهائل الذي تمارسه قواها الجاذبة على الأجسام السماوية الأخرى.

يشير القرآن إلى الثقوب السوداء في آيةٍ كما يلي:

«فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» القرآن الكريم، سورة المُرسلات - آية 8.

توضِّح كل هذه الأجسام المدهشة والتوازن أنَّ المسافات بين الأجسام السماوية مثالية لوجود الحياة البشرية. لم تتشكَّل هذه المسافات الشاسعة بعشوائيةٍ، بل خلقها الله لغرضٍ معين:

«تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ. الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» القرآن الكريم، سورة المُلك - آية 1-4.

لقد أوضحت المعلومات التي رأيتَها في هذا الفيلم بعض الحقائق المهمة:

لقد ضحد علما الفيزياء والفلك الحديثان الفلسفةَ المادية التي تنكر كلًّا من وجود الله وخلق الكون. يثبت العلم أنَّ الكون قد خلقه الله.

هناك توازن ونظام إلهي في كل تفصيلة في الكون. شكَّل الله التوازنات المثالية للبشر.

خلق الله - صاحب الحكمة والقوة والمعرفة اللا متناهية - الكونَ بأكمله، وواجبنا الاعتراف بهذا الخلق الرائع وتقديره حق قدره، لأنَّ الله في القرآن يخاطب الناس بهذا الكلام:

«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَيَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» القرآن الكريم، سورة الأعراف - آية 54.